الحالات الصحية المرتبطة بالجهاز العصبيحالات صحية

الصرع

دليل شامل حول الأنواع وكيفية التعامل مع النوبات

مقدمة

الصرع هو أحد أكثر الاضطرابات العصبية شيوعاً في العالم، حيث يؤثر على ملايين الأشخاص من مختلف الأعمار والخلفيات. يُعرف الصرع بأنه حالة عصبية مزمنة تتميز بحدوث نوبات متكررة غير مبررة، ناتجة عن نشاط كهربائي غير طبيعي في الدماغ. على الرغم من انتشار هذه الحالة، لا يزال هناك الكثير من المفاهيم الخاطئة والوصمة الاجتماعية المحيطة بها. تهدف هذه المقالة إلى تقديم فهم شامل للصرع، بما في ذلك أنواعه المختلفة، وأسبابه، وأهم الطرق الصحيحة للتعامل مع النوبات، مما يساعد على توعية المجتمع وتقديم الدعم المناسب للمصابين بهذه الحالة.

ما هو الصرع؟

الصرع ليس مرضاً واحداً، بل هو مجموعة من الاضطرابات العصبية التي تشترك في خاصية واحدة: الميل المتكرر لحدوث نوبات. النوبة الصرعية تحدث عندما تطلق مجموعة من الخلايا العصبية في الدماغ إشارات كهربائية مفرطة أو غير منظمة بشكل مفاجئ. هذا النشاط الكهربائي الشاذ يمكن أن يؤثر على جزء من الدماغ أو الدماغ بأكمله، مما يؤدي إلى تغيرات مؤقتة في السلوك، أو الحركة، أو المشاعر، أو مستوى الوعي.

يُشخص الشخص بالصرع عادةً بعد حدوث نوبتين أو أكثر غير مبررتين بفاصل زمني لا يقل عن 24 ساعة. من المهم التمييز بين النوبة الواحدة والصرع، حيث أن حدوث نوبة واحدة لا يعني بالضرورة أن الشخص مصاب بالصرع. يمكن أن تحدث النوبات لأسباب مختلفة مثل الحمى الشديدة، أو انخفاض السكر في الدم، أو إصابة الرأس، ولكن الصرع يشير إلى حالة مستمرة تتطلب إدارة طبية مستمرة.

أنواع الصرع والنوبات

يصنف الصرع والنوبات الصرعية بناءً على عدة عوامل، بما في ذلك مكان بدء النشاط الكهربائي الشاذ في الدماغ، ومستوى الوعي أثناء النوبة، والأعراض المصاحبة. التصنيف الحديث للنوبات يقسمها إلى ثلاث فئات رئيسية:

1. النوبات البؤرية (الجزئية)

النوبات البؤرية تبدأ في منطقة محددة من الدماغ، وتنقسم إلى نوعين فرعيين:

النوبات البؤرية مع الوعي (النوبات الجزئية البسيطة سابقاً): في هذا النوع، يظل الشخص واعياً تماماً أثناء النوبة. قد يعاني من أعراض حسية غير عادية مثل الوخز، أو الشعور بالخوف المفاجئ، أو رؤية أضواء وامضة، أو سماع أصوات غريبة. قد تحدث حركات متشنجة في جزء من الجسم مثل الذراع أو الساق. هذه النوبات عادة ما تكون قصيرة وتستمر لأقل من دقيقتين.

النوبات البؤرية مع ضعف الوعي (النوبات الجزئية المعقدة سابقاً): يفقد الشخص الوعي جزئياً أو يصبح مشوشاً أثناء هذه النوبات. قد يقوم بحركات متكررة لا إرادية مثل فرك اليدين، أو المضغ، أو البلع بشكل متكرر، أو المشي بلا هدف. بعد النوبة، قد لا يتذكر الشخص ما حدث ويشعر بالارتباك لفترة.

2. النوبات المعممة

النوبات المعممة تؤثر على جانبي الدماغ في نفس الوقت منذ البداية، وتشمل عدة أنواع:

نوبات الغياب (النوبات الصغرى): تتميز بفقدان قصير للوعي، عادة ما يستمر لبضع ثوانٍ فقط. يبدو الشخص وكأنه يحدق في الفراغ، وقد يرمش بشكل سريع. هذه النوبات شائعة عند الأطفال وقد تحدث عدة مرات في اليوم، مما قد يؤثر على التحصيل الدراسي إذا لم يتم تشخيصها.

النوبات التوترية الرمعية (النوبات الكبرى): هي النوع الأكثر شهرة والأكثر دراماتيكية من النوبات الصرعية. تبدأ بفقدان مفاجئ للوعي، يليها تصلب في الجسم (المرحلة التوترية)، ثم حركات ارتجاجية إيقاعية (المرحلة الرمعية). قد يعض الشخص لسانه أو يفقد السيطرة على المثانة. تستمر النوبة عادة من دقيقة إلى ثلاث دقائق، وبعدها يدخل الشخص في فترة تعافٍ تتميز بالنعاس والارتباك.

النوبات الرمعية العضلية: تتسبب في حركات ارتجاجية قصيرة ومفاجئة في العضلات، غالباً في الذراعين والساقين. قد تحدث كحركة واحدة أو سلسلة من الحركات، وعادة ما تكون قصيرة جداً (أقل من ثانية أو ثانيتين).

النوبات التوترية: تسبب تصلباً مفاجئاً في العضلات، خاصة في الظهر والذراعين والساقين. إذا كان الشخص واقفاً، فقد يسقط على الأرض.

النوبات الارتخائية (نوبات السقوط): تسبب فقداناً مفاجئاً لقوة العضلات، مما يؤدي إلى سقوط الشخص أو انهياره. هذه النوبات قصيرة جداً وقد تستمر لأقل من 15 ثانية.

3. النوبات مجهولة المنشأ

في بعض الحالات، لا يمكن تحديد ما إذا كانت النوبة بؤرية أو معممة بسبب عدم كفاية المعلومات أو عدم وجود شهود على بداية النوبة.

أسباب الصرع

الصرع له أسباب متعددة ومتنوعة، وفي حوالي نصف الحالات، لا يمكن تحديد السبب الدقيق. تشمل الأسباب المعروفة ما يلي:

العوامل الوراثية: بعض أنواع الصرع تنتقل في العائلات، مما يشير إلى دور الجينات. قد يكون لدى الأشخاص الذين لديهم تاريخ عائلي من الصرع خطر أعلى للإصابة بالحالة.

إصابات الدماغ: الإصابات الرضية للرأس الناتجة عن حوادث السيارات، أو السقوط، أو الإصابات الرياضية يمكن أن تؤدي إلى الصرع، أحياناً بعد سنوات من الإصابة الأولية.

أمراض الدماغ: الأورام الدماغية، والسكتات الدماغية، وتلف الدماغ الناتج عن نقص الأكسجين يمكن أن تسبب الصرع.

الالتهابات: التهاب السحايا، والتهاب الدماغ، وبعض الالتهابات الفيروسية الأخرى يمكن أن تؤدي إلى الصرع.

مشاكل النمو قبل الولادة: الأضرار التي تلحق بالدماغ قبل الولادة، مثل العدوى لدى الأم، أو سوء التغذية، أو نقص الأكسجين، يمكن أن تسبب الصرع عند الأطفال.

الاضطرابات التطورية: الصرع أكثر شيوعاً لدى الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات مثل التوحد أو متلازمة داون.

تشخيص الصرع

تشخيص الصرع يتطلب تقييماً شاملاً يشمل عدة خطوات:

التاريخ الطبي المفصل: يجمع الطبيب معلومات مفصلة عن النوبات، بما في ذلك الأعراض، والمدة، والتكرار، وأي محفزات محتملة. معلومات من الشهود الذين شاهدوا النوبة تكون قيمة للغاية.

الفحص العصبي: يقيم الطبيب الوظائف العصبية المختلفة، بما في ذلك ردود الفعل، والقوة العضلية، والتناسق، والحواس.

تخطيط كهربية الدماغ (EEG): هذا الاختبار يسجل النشاط الكهربائي للدماغ باستخدام أقطاب كهربائية موضوعة على فروة الرأس. يمكن أن يكشف عن أنماط غير طبيعية تشير إلى الصرع، حتى بين النوبات.

التصوير العصبي: التصوير بالرنين المغناطيسي أو التصوير المقطعي المحوسب يمكن أن يكشف عن تشوهات هيكلية في الدماغ قد تكون سبب النوبات.

اختبارات الدم: تساعد في استبعاد حالات أخرى قد تسبب نوبات، مثل اختلالات الكهارل أو مشاكل الأيض.

كيفية التعامل مع النوبات الصرعية

معرفة كيفية الاستجابة بشكل صحيح أثناء نوبة صرعية يمكن أن تكون منقذة للحياة وتقلل من خطر الإصابة. إليك إرشادات مفصلة للتعامل مع أنواع مختلفة من النوبات:

التعامل مع النوبات التوترية الرمعية (الكبرى)

هذه هي النوبات التي تتطلب أكثر استجابة فورية:

ابقَ هادئاً: من المهم أن تحافظ على هدوئك حتى تتمكن من مساعدة الشخص بفعالية.

احم الرأس: ضع شيئاً ناعماً مثل سترة أو وسادة تحت رأس الشخص لمنع إصابات الرأس.

أبعد الأشياء الخطرة: احرص على إبعاد أي أشياء حادة أو صلبة قد يصطدم بها الشخص أثناء النوبة.

ضع الشخص على جانبه: إذا أمكن، قم بوضع الشخص على جانبه بلطف لمساعدة السوائل على الخروج من الفم ولمنع الاختناق.

سجل الوقت: ابدأ في توقيت النوبة منذ بدايتها. هذه المعلومة مهمة للعناية الطبية.

لا تقيد الحركة: لا تحاول إيقاف حركات الشخص أو تقييده، فقد يتسبب ذلك في إصابات.

لا تضع أي شيء في الفم: خلافاً للمعتقد الشائع، من المستحيل أن يبتلع الشخص لسانه. وضع شيء في الفم يمكن أن يكسر الأسنان أو يسد مجرى الهواء.

ابقَ مع الشخص: لا تترك الشخص بمفرده حتى ينتهي من التعافي الكامل ويكون في حالة تأهب ووعي تام.

اطلب المساعدة الطبية إذا:

  • استمرت النوبة لأكثر من خمس دقائق
  • حدثت نوبة ثانية بعد الأولى مباشرة
  • كان الشخص لا يتنفس بشكل طبيعي بعد توقف النوبة
  • كان الشخص مصاباً أثناء النوبة
  • كانت هذه أول نوبة للشخص
  • كان الشخص حاملاً أو مريضاً بالسكري
  • حدثت النوبة في الماء

التعامل مع النوبات البؤرية مع ضعف الوعي

ابقَ مع الشخص: كن حاضراً لتوجيه الشخص بعيداً عن الخطر.

وجه برفق: إذا كان الشخص يتجول، وجهه بلطف بعيداً عن الخطر مثل الشارع أو السلالم.

لا تقيده: لا تحاول إيقاف حركات الشخص إلا إذا كان في خطر مباشر.

تحدث بهدوء: استخدم صوتاً هادئاً ومطمئناً. حتى لو لم يكن الشخص متجاوباً تماماً، فقد يساعد ذلك.

اشرح للآخرين: إذا كان هناك متفرجون، اشرح بإيجاز ما يحدث لتقليل القلق والمساعدة.

ابقَ حتى التعافي الكامل: انتظر حتى يستعيد الشخص وعيه الكامل ويدرك المحيط.

التعامل مع نوبات الغياب

هذه النوبات قصيرة جداً وقد لا تتطلب تدخلاً فورياً، ولكن:

لا تترك الطفل بمفرده: إذا حدثت النوبة في موقف خطر محتمل (مثل عبور الشارع).

أعد توجيه الانتباه: بعد النوبة، قد تحتاج إلى تذكير الطفل بما كان يفعله.

راقب التكرار: سجل تكرار هذه النوبات لإبلاغ الطبيب.

بعد النوبة – مرحلة ما بعد النوبة

بعد انتهاء النوبة، يدخل معظم الأشخاص في فترة تعافٍ تسمى مرحلة ما بعد النوبة:

وفر الراحة: اسمح للشخص بالراحة في مكان هادئ. قد يشعر بالنعاس الشديد.

راقب العلامات الحيوية: تأكد من أن التنفس طبيعي وأن الشخص يستجيب تدريجياً.

وفر الطمأنينة: قد يشعر الشخص بالارتباك أو الخوف. تحدث بهدوء وطمأنه.

لا تعط طعاماً أو شراباً: حتى يستعيد الشخص وعيه الكامل وقدرته على البلع بأمان.

ابقَ معه: لا تترك الشخص بمفرده حتى يتعافى تماماً ويكون قادراً على العودة إلى أنشطته الطبيعية.

العلاج وإدارة الصرع

إدارة الصرع تهدف إلى السيطرة على النوبات مع تقليل الآثار الجانبية للعلاج قدر الإمكان:

الأدوية المضادة للصرع

هذه هي الخط الأول في العلاج، ويتوفر أكثر من 20 دواءً مختلفاً. اختيار الدواء يعتمد على نوع النوبات، والعمر، والجنس، والحالات الصحية الأخرى. حوالي 70% من الأشخاص المصابين بالصرع يمكنهم السيطرة على النوبات بالأدوية.

من المهم جداً تناول الأدوية بانتظام حسب وصف الطبيب. التوقف المفاجئ عن الدواء يمكن أن يؤدي إلى نوبات خطيرة. قد يستغرق الأمر بعض الوقت لإيجاد الدواء والجرعة المناسبين.

الجراحة

عندما لا تستجيب النوبات للأدوية، قد تكون الجراحة خياراً. الجراحة الأكثر شيوعاً تتضمن إزالة جزء الدماغ الذي يبدأ فيه النوبات. هذا ممكن فقط إذا كانت النوبات تنشأ من منطقة صغيرة محددة وإزالتها لن تؤثر على الوظائف الحيوية.

العلاجات الأخرى

التحفيز العصبي: مثل تحفيز العصب المبهم، حيث يتم زرع جهاز يرسل نبضات كهربائية إلى الدماغ.

النظام الغذائي الكيتوني: نظام غذائي عالي الدهون ومنخفض الكربوهيدرات، فعال خاصة عند الأطفال الذين لا يستجيبون للأدوية.

إدارة نمط الحياة: الحصول على نوم كافٍ، وإدارة التوتر، وتجنب محفزات النوبات المعروفة.

العيش مع الصرع

الصرع يمكن أن يؤثر على جوانب عديدة من الحياة، ولكن مع الإدارة الصحيحة، يمكن لمعظم الأشخاص أن يعيشوا حياة طبيعية ومنتجة:

السلامة في المنزل: اتخذ احتياطات مثل استخدام ميكروويف بدلاً من الموقد، والاستحمام بدلاً من الاستحمام في حوض الاستحمام، وتغطية الزوايا الحادة.

القيادة: قوانين القيادة تختلف حسب المنطقة، لكن معظم الأماكن تتطلب فترة خالية من النوبات قبل السماح بالقيادة.

التوظيف: معظم الوظائف مناسبة للأشخاص المصابين بالصرع المسيطر عليه. من المهم الانفتاح مع أصحاب العمل حول الاحتياجات الخاصة.

الحمل: مع التخطيط والرعاية المناسبة، يمكن للنساء المصابات بالصرع الحمل بأمان.

الصحة العقلية: الاكتئاب والقلق أكثر شيوعاً لدى الأشخاص المصابين بالصرع. البحث عن الدعم النفسي مهم.

كسر الوصمة

على الرغم من أن الصرع حالة شائعة، لا يزال هناك الكثير من سوء الفهم والوصمة المحيطة به. التثقيف والتوعية هما مفتاح تغيير المواقف. من المهم أن نفهم أن:

  • الصرع ليس معدياً
  • الأشخاص المصابون بالصرع لديهم ذكاء طبيعي (في معظم الحالات)
  • يمكن للأشخاص المصابين بالصرع أن يعيشوا حياة كاملة ومنتجة
  • الصرع ليس علامة على ضعف الشخصية أو مشكلة نفسية

الخلاصة

الصرع هو حالة عصبية معقدة تؤثر على ملايين الأشخاص حول العالم. مع التقدم في الطب والعلاج، يمكن للغالبية العظمى من الأشخاص المصابين بالصرع السيطرة على نوباتهم والعيش حياة طبيعية. المفتاح يكمن في التشخيص المبكر، والعلاج المناسب، والدعم المجتمعي.

معرفة كيفية التعامل مع النوبات الصرعية بشكل صحيح يمكن أن تحدث فرقاً كبيراً في سلامة ورفاهية الأشخاص المصابين. من خلال التثقيف وكسر الحواجز الاجتماعية، يمكننا خلق مجتمع أكثر فهماً ودعماً للأشخاص الذين يعيشون مع الصرع.

إذا كنت تعاني من نوبات، أو تعرف شخصاً يعاني منها، فإن طلب المساعدة الطبية المتخصصة هو الخطوة الأولى الحاسمة. مع الرعاية المناسبة، يمكن لمعظم الأشخاص المصابين بالصرع تحقيق السيطرة الجيدة على حالتهم والاستمتاع بنوعية حياة ممتازة.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى